شكل المسرح على الدوام فضاء للمقارعات الفكرية والفلسفية، ومجالا خصبا لطرح ومناقشة القضايا الكبرى التي تشغل بال المجتمعات، وعلى رأسها المآسي والويلات التي تترتب عن الحروب، والنزاعات المسلحة، والإبادات، والخراب، والدمار الذي يعم الإنسان والحيوان، والحجر، والشجر…وهو ما يضع فلسفة الأنوار، والقيم الكبرى، والتحضر، والتمدن، والعقلانية، والحداثة، وحقوق الإنسان، والمواثيق والشرعات الدولية، موضع تشكيك ومساءلة.
وإذا كانت التراجيديا الإغريقية تجعل من الآلهة، وأنصاف الآلهة، والملوك العظام، أبطالا لمسرحياتها، فإن التراجيديات الكبرى التي باتت تعيشها الإنسانية في كنف الحداثة، صار أبطالها هم عموم الناس، بغض النظر عن جنسهم، أو لونهم، أو ديانتهم، أو لغتهم، أو ثقافتهم. ولا يمكن الحديث عن أعمال مسرحية خالدة طبعت تاريخ المسرح إلا في ارتباطها بالرؤية المأساوية العميقة، كما هو الحال بالنسبة إلى أعمال شكسبير، أو كورني، أو راسين…أو بعض التوجهات المسرحية الحديثة التي اختارت الملهاة السوداء، للتعبير عن هموم العالم الحديث الذي تداخلت فيه التراجيديا بالكوميديا، والحياة بالموت، والمعقول باللامعقول، والمعنى باللامعنى…
في هذا الإطار، اخترنا الاشتغال على نصين مسرحيين عملا على مسرحة الإبادة والمقاومة في فلسطين والبوسنة، مركزين على استقراء النصين وتشريحهما، ومقاربتهما فكريا وجماليا، وكذا مساءلتهما، وفق رؤية استقرائية تأويلية تفتح النصين على آفاق ومنافذ جديدة، منطلقة من الوضع المأساوي الكائن نحو وضع مستقبلي آخر ممكن ومحتمل.
ويعد النص المسرحي الموسوم ب:”كيياس”، Caillasses أو “طفل الحجارة” للكاتب الفرنسي المعاصر لوران غوده Laurent Gaudé من النصوص المتميزة التي سعت لاستقراء الوضع الداخلي الفلسطيني المتسم بنوع من الاحتقان السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، جراء الاحتلال الإسرائيلي الغاشم الذي فرض مختلف أنماط الحصار على الفلسطينيين العزل، حارما إياهم من كل الحريات العامة، مستعملا في ذلك أعتى الأسلحة المحرمة دوليا، وجميع أنواع التعذيب، والقهر، والإذلال، والحرمان، حيث تحولت فلسطين إلى سجن مفتوح، وأضحى الفلسطينيون متهمين بالعنف والإرهاب.
عمل الصهاينة جاهدين على تركيع الشعب الفلسطيني بكل الوسائل غير المشروعة، بما في ذلك التقتيل الممنهج، والتعذيب، والاعتقالات التعسفية التي تطال الرجال، والنساء، والأطفال، وهدم البيوت على رؤوس ساكنتها، ونسف المباني، وحرق المحاصيل الزراعية، واجتثاث أشجار العنب، والزيتون…غير أن هذه الأساليب الهمجية لم تزد الفلسطينيين إلا إصرارا على انتزاع حقوقهم المشروعة في وطنهم، معتمدين في ذلك على المقاومة المسلحة حينا، وعلى المقاومة السلمية في أغلب الأحيان.
ويندرج النص المسرحي الذي اجتبت له الكاتبة البلجيكية أميلي نوثومبAmélie Nothomb عنوان: “وقاد” Les combustibles، في إطار النصوص المسرحية المعاصرة التي انبرت لمساءلة مرحلة تاريخية هامة من تاريخ أوروبا في نهاية القرن العشرين. يتعلق الأمر بالجريمة الشنعاء ضد الإنسانية التي اقترفتها أيادي القوميين المتطرفين الصرب في حق مسلمي البوسنة والهرسك، تحت أنظار العالم، حيث قاموا بإبادتهم، واغتصاب نسائهم، وتيتيم أطفالهم، ومصادرة ممتلكاتهم، والعبث بعزتهم وكرامتهم… الأمر الذي يمكن وصفه بالمأساة الإنسانية الفظيعة.
وللأسف، فإن حداثة الغرب وشعاراته الرنانة المنادية بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وحقوق الشعوب المستضعفة في تقرير مصيرها، تبخرت فجأة، كاشفة إلى حد بعيد، عن ازدواجية معايير حكام العالم الغربي الذين يقودون العالم، حيث تواطؤوا بشكل مكشوف، مع بني جلدتهم، مغمضين أعينهم، وصامين آذانهم عن سماع أنين الأبرياء المسلمين العزل الذين ذبحوا من الوريد إلى الوريد، وصاروا هدفا للقناصين الصرب المدججين بأعتى الأسلحة، حيث استرخصوا أجسادهم وأرواحهم، وحولوهم إلى طرائد يعبث بها.
وعليه، فإن العالم كان ولا يزال شاهدا بالصوت والصورة على مأساة شعبين أعزلين، هما الشعب الفلسطيني والشعب البوسني اللذين تعرضا لحرب همجية استئصالية، وإبادة جماعية، جوبهت بمقاومة باسلة شامخة تأبى الخضوع والخنوع. فكيف عالج لوران غوده القضية الفلسطينية باعتبارها تراجيديا أمة تذبح وشعب يباد؟ وما هي الأسس التي ارتكزت عليها أملي نوثومب في معالجة المأساة البوسنية التي لم تكن في الواقع سوى حرب تطهيرية عرقية مسربلة بمسحة كنسية متطرفة؟ وما هو الخيط الناظم بين النصين المسرحيين فكريا وجماليا؟ وإلى أي حد استطاع المؤلفين معا مساءلة صدقية شعارات القيم الإنسانية الفضلى التي يرفعها الغرب؟ وهل نجحا في مقاربتهما لجدلية الإبادة والمقاومة وتبئيرهما للرؤية المأساوية في النصين معا؟
أولا.المأساة المسربلة بالأسطورة في مسرحية “كيياس”
أو طفل الحجارة للوران غوده
1.توطئة
ترتب عن صمود الأجيال المتتالية في فلسطين وعي قوي بأن الحقوق تنتزع ولا تعطى، لذلك أضحى أغلب الفلسطينيين مؤمنين اليوم أكثر من أي وقت مضى، بعدالة قضيتهم، وبقدرتهم على المقاومة والصمود. وحتى إن لم يتحقق حلم الفلسطينيين اليوم في إقامة دولة فلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف، وعودة كل اللاجئين والمغتربين الموجودين في الشتات، فإن هذا الحلم يمكن أن يتحقق غدا، أو في المستقبل القريب مع الأجيال الجديدة التي ولدت في المخيمات، وعانت الأمرين منذ نعومة أظافرها. وتبقى الانتفاضات المتوالية خير سلاح يمكن اللجوء إليه في كل الأوقات، حيث أثبتت نجاعتها، وقدرتها على تخويف العدو، وترهيبه، وعيشه الأبدي في دوامة من الفزع والخوف. علاوة على العامل الديمغرافي الذي يعد هو الآخر سلاحا استراتيجيا على المدى البعيد، حيث دأبت الأمهات الفلسطينيات على ولادة أكبر عدد من الأبطال الذين ستكون لهم كلمة الفصل.
وفي المقابل، فقد نمت مجموعة من الأيديولوجيات التي يؤمن بعضها بحسم الصراع عن طريق الجهاد، بما في ذلك تفجير الذوات بأحزمة ناسفة داخل وخارج المستوطنات، وأسر بعض الجنود لمقايضتهم بالأسرى الفلسطينيين، أو حتى خوض حرب عصابات مع العدو رغم قلة العتاد…في حين أن هناك فصائل فلسطينيين أخرى مصرة على النضال السلمي، واللجوء إلى المنظمات الدولية لمقاضاة الدولة الإسرائيلية على جرائمها، واستيطانها، والتهديد بسحب الاعتراف بدولة إسرائيل…وهو ما أدى إلى الفرقة بين الفلسطينيين في ظل وجود مشروعين مجتمعيين متباينين، واحد إسلامي، يؤمن بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة المسلحة، وآخر ليبرالي، مدني، مقتنع بجدوى المقاومة السلمية في ظل اختلال الموازين.
غير أن معالجة المؤلف لوران غوده في نص “كيياس” أو طفل الحجارة للوضع الفلسطيني لم يكن من موقع سياسي صرف، بل إنه غاص عميقا في تشريح الوضع الاجتماعي، والنفسي لمجموعة من الشخصيات الموجود بعضها في المنفى، وبعضها الآخر داخل فلسطين، ورغبتها الجامحة في التلاقي بعد طول غياب دام أجيالا بكاملها. إلا أنه ينزع بين الفينة والأخرى إلى التلميح، أو حتى التصريح، بتضافر بعض العوامل السياسية والدينية التي تؤجج الصراع، منتصرا للحقوق التاريخية للفلسطينيين التي سينتزعونها، إن آجلا، أو عاجلا، مدبجا عملا تراجيديا يفوح بالمعاناة المختلفة والمتباينة، في أعمق مظاهرها وتجلياتها.
“وإذا كان الحس المأساوي بالحياة هو جوهر التعبير الدرامي عموما، والمأساة بصفة خاصة، وكان العمل المسرحي العظيم، هو تعبير عن رؤية مأساوية للعالم، مستترة أو ظاهرة، فهل يمكن الحديث عن دراما حقيقية بدون رؤية مأساوية أصيلة، وحس مأساوي عميق؟.”
2.محكي النص
يتمحور النص المسرحي الموسوم ب: “كيياس”، أو طفل الحجارة حول قصة عائلة فلسطينية موزعة بين المنفى، وأرض الوطن، حيث غادرت مريم بلدتها مرغمة، كما هو الحال بالنسبة لعدد كبير من الفلسطينيين في اتجاه المنفى، ومكثت هناك زهاء ثلاثة عقود، دون أن تتمكن من زيارة أهلها بالداخل. غير أن مريم فوجئت بحشد كبير من المنفيين الذين اقتفوا آثارها، وتدفقوا على السياج الحدودي، وهو ما حال دون تمكينها من العبور لوحدها. وفي الطرف المقابل، تدخل جيش المحتل لتفريق المحتشدين، وتعنيفهم، وإذلالهم، خاصة فاروق الذي جرد من ملابسه كلها أمام الملأ، وأمام أعين ابنته عديلة، وجيرانه، وأخته التي رمقته من الضفة الأخرى، وهو ما خلف جرحا عميقا لدى الجميع.
خاب أفق انتظار مريم التي طالما حلمت بلقاء أخيها فاروق، إلا أنها فوجئت في الأخير بابنته عديلة تحل بين ظهرانيها بدلا من أبيها. حزمت هذه الأخيرة أمرها بعد استشارة صديقها، وتوأم روحها، “كيياس”، فقررت أن تفجر نفسها، وتتطاير أشلاؤها، بين صفوف المستوطنين، انتقاما من كل ما اقترفته أياديهم الآثمة في حق أبناء الشعب الفلسطيني العزل. بيد أن والدها فاروق لم يرض بتاتا عن هذا الاختيار الدموي العنيف، حيث اعتبر دائما أن الصراع بين الفلسطينيين الإسرائيليين “صراع سياسي”، ويجب أن يحل بالطرق السياسية، كما أنه كان يمني النفس في أن تضمن عديلة استمرارية اسمه وعائلته، لكنها صدمته، وهزت كيانه بفعلتها هاته التي جعلتها ملعونة حتى في موتها.
3.الأب مطروحا على الأرض، أو المنعطف التراجيدي
يبدأ المؤلف نصه بمشهد تظهر فيه مريم برفقة المهرب الذي دفعت له أجرا مضاعفا مقابل العبور بها إلى الاتجاه الآخر، علما أن لا أحد غيرها يريد العودة إلى أرض الوطن في الفترة الراهنة. فالكل يسعى إلى الرحيل، بحثا عن فرص أخرى في الحياة، بعيدا عن الحصار الخانق الذي يفرضه المحتل على الفلسطينيين.
يتقدم المهرب رفقة عديلة، محدثا إياها عن حالة الضياع التي عاشها في المخيمات، ملتفتا إلى أن هناك من يقتفي أثرهما، رغم أنهما لم يخبرا أحدا بإقدامهما على العبور. تطرق فاطمة وعديلة باب فاروق لإيقاظه، بالنظر إلى عدم تمكنهما من النوم الناتج عن الأصوات الآتية من الجهة الأخرى، حيث تأكدتا أنهما لا يحلمان، وليستا مجنونتين، طالما أن فاروق يسمع الأصوات نفسها، لطوابير الرجال والنساء التي ستتدفق على المدينة.
يخرج فاروق بمعية فاطمة ونظرية، وعديلة في اتجاه ساحة المدينة، متبوعا بعدد كبير من السكان الذين اعتبروا اليوم يوم “عيد كبير”، حيث تجتمع العائلات من جديد
“فاروق: انتظرت عمري كله كي أعيش هذا اليوم، لأفكر في سنوات النضال، في رفاقي
الذين سقطوا قبلي. ربما عشت فقط من أجل هذه اللحظة.
عديلة: أبي، أرجوك.
فاروق: أسوأ من الجثو على الركبتين..
عديلة: وجوهنا إلى الأرض مثل الكلاب، وأدنى كثيرا من سجودنا إلى الصلاة.”
عم نوع من الهلع والرعب الشديدين المحتشدين، وطفقوا يصلون، ويبتهلون إلى الله لينجيهم من بطش الظلمة، ورفع الرجال أيديهم إلى السماء، الواحد تلو الآخر، مارين أمام دورية الجنود، كاشفين بطونهم العارية، للتأكد من أنهم لا يحملون متفجرات. بعد هنيهة، مر الجميع من التفتيش، ولم يتبق سوى فاطمة، ونظرية، وعديلة، وفاروق، أي أن الخطر لم يعد قائما بتاتا، مادام الأمر يتعلق فقط بثلاث نساء، ورجل عجوز. غير أن الجنود كان لهم رأي آخر، حيث تقدموا صوب فاروق، معنفين إياه معنويا، بكيل كل أنواع السباب والإهانة، رغم استعطاف النساء لهم، آمرين إياه بأن ينزع ملابسه كلها، ويبقى كما ولدته أمه، عقابا له على تماطله في الاستجابة لأوامرهم بالانبطاح أرضا.
“فاروق: لا تفعل هذا، أمام ابنتي.
عديلة: لم أعد قادرة على المشاهدة،
أسمع صوت البنطال وهو ينزع، أبي مجرد من ملابسه،
فاروق: ليس أمام أختي.
مريم: إني أراه
نظرية: ضربة أخرى جعلته يئن
عديلة: يبصقون عليه، هنا، فوق الوجنة، كما لو أنهم يبصقون فوق جثة كلب
مريم: لا أريد أن أرى المشهد، لكن فات الأوان. رأيت، والصورة الآن بداخلي.
عديلة: لم أعد قادرة على التحرك.”
إنها قمة الاحتقار، والازدراء، والاستهتار بكرامة الإنسان، واغتيال معنوي لكبريائه، عندما يتم نزع كل ملابسه، ويترك عاريا أمام أنظار ابنته، وأخته، وجيرانه، مستغلين ضعفه، وقلة حيلته، مدركين أن إقدامهم على هذا الأمر أنكى، وأمر من القتل، ذلك أن الثقافة العربية الإسلامية المنغرسة في قلوب، ووجدان كل العرب، تجعل من العري خطا أحمر، خاصة عندما يكون الأمر أمام الناس، وأمام ذوي القربى. ومن المستحيل أن يقبل الإنسان العربي بتعرية جسده، وكشف عورته، إلا أن جنود الاحتلال أبوا إلا أن يمعنوا في إذلال فاروق، وتحطيم كل معنوياته، ليكون مثالا بالنسبة لأهل المدينة الملزمين بالخضوع المطلق، والامتثال الفوري لأوامرهم.
بقي فارق منبطحا على بطنه، رافضا القيام من مكانه، مادام أن كرامته مرغت في الوحل، ولم يعد قادرا على النظر في أعين أهله وذويه الذين اطلعوا على عورته. ورغم محاولات فاطمة حثه على النهوض، إلا أنه رد عليها بحركة عنيفة، مفضلا البقاء على الحال، وربما سينقضي النهار دون أن يتململ. فقد انضافت إهانة الجنود، إلى نظرة مريم من الطرف الآخر لتجهز على مقدوراته المعنوية، حيث اعتصم لمدة ثلاثة أيام، دون أكل، أو شرب، أو كلام مع أي أحد.
عمل لوران كوده على خلق، وأسطرة شخصية “كيياس”، غير الآدمية، التي ستندمج مع المواطنين الفلسطينيين، وتصبح حاملة لقضيتهم، وعنوانا لصمودهم، وتضحياتهم. وقد كانت علاقة الأسطورة بالمسرح على الدوام علاقة قوية، ووثيقة منذ القدم. فهي علاقة فكرية وفلسفية عميقة، وأداة تعبير عن قضايا النزوع الأسطوري، باعتباره ظاهرة إنسانية تتجلى أسمى مظاهرها في مختلف أصناف الإبداع الإنساني. فالشعوب تبحث دائما عن “البطل” الذي يخلصها من مشاكلها الداخلية، والخارجية، أي أنها تسعى إلى أسطرة واقعها، عبر إيصال بعض الأشخاص، أو الشخصيات إلى مستويات عليائية، تتجاوز الكائن نحو الممكن، والمحتمل.
تقوم الأسطورة بالأساس على ثنائية الخيال والتصور، فتعبر عن دلالات اجتماعية متخيلة، مما يؤدي إلى تأصيلها في الذاكرة الجماعية، لتصبح موضوع عقيدة جماعية. ويمكننا القول إن للأسطورة سطوة على الإنسان، نظرا لما تتمتع به من قدسية، وسلطة على عقول الناس، ونفوسهم. فهي تتحول من جيل إلى جيل آخر، وتتوارثها الشعوب. في هذا الصدد، يرى كلود ليفي ستروس أن “الأساطير تأخذ مكان العلوم في المجتمعات البدائية، والتقليدية إلى حد ما”، ولعل ما يثير الانتباه في هذا المجال، هو أن “مفاهيم الأسطورة وتفسيراتها كثيرة، وتدور أساسا حول الأمور المبالغ فيها، والتي قد تصل حد المعجزات. وهي تمثل محاولة تفسير يقوم به الإنسان لأسرار لا يفهمها، مضفيا عليها قيمة دينية واضحة. فأساطير البشر تجسد القوى غير المفهومة في شكل آلهة، و كائنات خارقة، مصبوغة بصبغة قدسية محضة.”
ومن المنظور السيكولوجي، فإن عالم النفس يونغ يرى أن “الأساطير تعبير رمزي عما أسماه باللاشعور الجمعي، أو الجماعي لدى الأمة”. في حين أن كلود لفي ستراوس يذهب من خلال المقاربة الأنثروبولوجية إلى اعتبار الأسطورة” حكاية تقليدية، تلعب الكائنات الماورائية أدوارها الرئيسية”.
والواقع أن كل شيء يخضع للخطاب يمكن أن يشكل أسطورة. فالواقعي، واليومي، بإمكانه أن يتحول من معيش إلى محكي، ومقول. وهنا نلاحظ تغيرا واضحا في السياقات، فالأسطورة في الموروث الشعبي تتمثل في الخرافة التي تستوعب شخصيات غير عادية، ومختلفة، لا تمت لواقع الإنسان العادي بأية صلة، “فالأسطورة تعبر عن منهجية الشعوب البدائية في التفكير، وتفسير الكون، حيث كانت تلعب دور المعرفة العلمية في هذه المجتمعات التي لم تشهد ولادة العلم. أما التفكير الخرافي فهو التفكير الذي يتناقض مع الواقع، ويتنافر مع المنطق، ويقوم على إنكار العلم، ورفض مناهجه.” كما تقوم الأسطورة كذلك بتصوير أشخاص حقيقيين، لكن مع المبالغة في تقديمهم، كجعلهم شخصيات تاريخية استثنائية، وأبطالاً لأساطير غالبًا ما تدور مواضيعها حول قضايا الولادة، والبداية، والنهاية، والموت، والخير، والشر…
4.المفاتيح المرفوضة، أو الذاكرة المثخنة بالجراح
تلتقي مريم مرة أخرى بالمهرب صدفة بين التلال، وتلومه عن تخليه عنها في لحظة حرجة، وعن نكوصه لعهده، وعدم أداء مهمته المتفق بشأنها، وجعل مصلحته فوق كل اعتبار، لكنه يرد موضوعيا بأن الظروف لم تكن تسمح، في ظل تجمهر الحشد الكبير من جوقة المنفيين الذين يرغبون في العودة بشكل جماعي. واستطرد في القول بأن الناس ينعتون أباه بمفرغ الوطن الذي أصبح غنيا بفضل عبوره بعدد كبير جدا من الأسر، وتقاضيه لمبالغ مالية مهمة مقابل هذه الخدمة.
يبدو أن طفل الحجارة الذي كبر، واشتد عوده، أصبح هو الملاذ الوحيد لسكان المدينة المحاصرة التي زادت اختناقا جراء الاشتباكات اللامرئية، وسماع إطلاق النار المتقطع، وانتشار إشاعات زرع الألغام في الأماكن العمومية، واختطاف الأطفال ليلا…وتضييق الخناق أكثر فأكثر على الناس العزل.
تعثر عديلة على المهرب، وتخبره بأنها سترافقه بدلا من أبيها، فيرد عليها بأنه سيفعل ذلك حالما تنقشع سحب الحصار القوي، ويجد فرصة للعبور، مخبرا إياها بأنه بمجرد علم أهلها وأصدقائها بمغادرتها، سيحملون إليها قلادات، ورسائل، ومفاتيح، وأشياء تافهة أخرى، وستكون عالة عليها، ومعيقا يحول دون تحركها بشكل مرن.
لا أحد من سكان المدينة عارض مغادرة عديلة، باستثناء طفل الحجارة الذي بقي متمسكا به إلى آخر لحظة، محاولا إقناعها بالبقاء في المدينة التي بدأت تحصي جرحاها، وقتلاها، بعد بدء مغادرة المحتل لأحيائها. وقبل الرحيل، طلب فاروق من عديلة أن تبقى لجانبه لحظة، ليتملى بطلعتها البهية، ويتأمل وجهها الذي سيمنحه القوة للصمود والبقاء، قبل أن يعطيها حزمة من المفاتيح، ويوصيها بها خيرا.
“فاروق: خذي هذه المفاتيح، أعطيها لك، إنها ملكك.
يقينا هي الشيء الوحيد الذي سأتركه لك.
لقد انتقلت من أم إلى ابن، إلى أن وصلتك أنت، إنها أمي يا عديلة،
أمي من أعطتها لأمك، وبدورها أمك كانت ستعطيك إياها.”
إن المفاتيح عربون للأصل، والملك، والحق في العودة إلى الديار التي طرد منها فاروق بمعية أهله، حيث كان يسكن بيتا فسيحا بين التلال. غير أن عديلة لن تحتفظ فقط بالمفاتيح، بل لن تنس ابتسامته المنهكة، وعيناه المرهقة بالعزلة، وتحتفظ بما فعله به المحتل الغاشم، من تنكيل وإذلال، ولن تنس أبدا كلامه، حين يقول:
“المعركة ليست دينية، ولا عنصرية، إنها سياسية.
ولن نخضع أبدا.
ليست المفاتيح وحدها ما تمنحني إياه،
ما هو أكثر، هناك ما هو أكثر، وجه الرجل المهزوم،
هذا ما يشحذ تفكيري يا أبي، هذا ما سأحمله معي.
لا أريد أن أنس ما فعلوه بك… ”
تلتقي عديلة طفل الحجارة قبل مغادرتها، مقبلة الحجر المتشظي الذي يمثل رمزا وعربونا للوطن، قبل أن يعدها بأنه سيأتي لرؤيتها، وأنها ستكون له دون مراوبة، وهو ما وافقت عليه. وكان بود نساء المدينة مرافتها في موكب، وزفها إلى الجهة الأخرى، لكن الظروف لا ترحم، لذلك اكتفين بالدعاء الصادق لها.
5.الملعونة، أو خيار المقاومة المسلحة عبر تفجير الذات
يسير المهرب جنبا إلى جنب مع عديلة وسط الأدغال، والتلال، وقد بدأت تتخلص شيئا فشيئا من الرسائل، والأمانات، والصور، والمفاتيح التي كانت تحملها معها، وهو ما أوصاها به المهرب الذي يعي جيدا أنه من الصعوبة العبور بكل هذا الثقل. وما هي إلا لحظات حتى تراءت لهما مريم في الجهة الأخرى. ظلا يقتربان منها حتى التقيا معها وجها لوجه، حيث بدت الخيبة واضحة المعالم والقسمات على محياها. فقد كانت تنتظر أخاها فاروق الذي اشتاقت إلى رؤيته، والتملي بطلعته البهية، لكنها صدمت عندما لم تجده أمامها، ووجدت عديلة بدلا منه. ساءلت المهرب عن الموقف، فرد عليها بأن فاروق هو من قرر، وأن البنت التي تقف جانبها هي عديلة ابنة أخيها. تصنعت مريم البشاشة، فاتحة ذراعيها لعديلة.
في ظل هذا السياق المفعم بالمشاعر الغامضة، والملتبسة، سعت مريم التخفيف على عديلة بمناداتها ابنتي، محاولة ضمها إليها، وزرع بعض الدفء العاطفي في علاقتها بها، منتبهة إلى الجروح التي علقت بجسدها، إلا أن عديلة ردت عليها بأنها خدوش بسيطة، محتفظة بالآلام الغائرة في نفسها، متكتمة على حقيقة ما ألم بها، ساعية إلى الاستفراد بذاكرة ماضيها الأليم الذي لا تريد أن تشرك عمتها في تفاصيله.
صارت عديلة تكن حقدا دفينا للمحتلين الذين يعيشون في جنة الأرض، بعد أن اغتصبوها من سكانها الأصليين الفلسطينيين، وجعلوهم في المقابل يعيشون حياة البؤس، والتشرد، والنفي، والمعناة اليومية المادية والمعنوية، والعذاب الأبدي، وكل ألوان التحقير والإهانة التي يذوقونها على أيادي الجنود الذين لا يرحمون شيخا، ولا امرأة، ولا طفلا، بعد أن نزعت الرحمة من قلوبهم، وصاروا جلادين، وساديين، يتلذذون بتعذيب أصحاب الأرض الأصليين. وقد شهدت عديلة بأم عينيها هذه الويلات التي توجت بالتعذيب الممنهج الذي تعرض له أبوها فاروق، عندما صادروا منه عزته، وكرامته، وجعلوه يحتقر نفسه، بتعريته أمام أعينها، وأعين عمتها، والحشد الكبير الذي حضر هذه الواقعة، واستنكر بشدة تفاصيلها، دون أن يكون بإمكانه تغيير هذا المنكر.
وجدت الفرصة سانحة إذن للتفكير في الانتقام من هؤلاء المتغطرسين الجبارين، الذين استقووا بأسلحتهم، وعتادهم، ودعم قوى الاستكبار لهم عن غير وجه حق، وإذاقتهم من الكأس نفسها، التي يسقون بها الفلسطينيين الأبرياء. فقد صارت مستعدة تماما للقيام بأي فعل يمكن أن يرد الاعتبار لأبيها، ووطنها، وأهلها، ويشفي بعضا من غليلها، حتى لو اقتضى الأمر التضحية بنفسها، وتقديم جسدها قربانا، وانتقاما من المعتدي الآثم.
يبدو أن فاروق، وبحدس الأب الذي قلما يخطئ، بدأ يقلق شيئا فشيئا عن عديلة التي اختار لها العيش في الجهة الأخرى، ظنا منه أنها ستعيش حياة كريمة، وتكون على ما يرام، إلا أن ما بدأ يدور في خلده، عكر هذا الظن، وبدأت هواجس شعور غريب تنتابه، فيسأل عنها الجيران يوميا، ناسيا، أو متناسيا، أنها توجد في الجهة الأخرى، وأنه هو من قرر إرسالها إلى عمتها، بدلا عنه.
التحق طفل الحجارة بعديلة في الجهة الأخرى، وتفاجأت بكونه صار أكثر نضجا وقوة، مؤكدا لها أنها خلقت من أجله، وأنه بحث عنها في كل شبر إلى أن عثر عليها. بدا سعيدا، ومغتبطا عندما أخبرته أنها لا تنوي العيش مطولا هنا، معتقدا أنها تريد العودة إلى ديارها، إلا أنها كانت تقصد شيئا آخر، مؤداه أنها سئمت من هذه الحياة نهائيا، وترغب في وضع حد لها، مطالبة إياه بتعليمها كيفية تفجير نفسها!
وبينما يكابد أهل المدينة، ويقاومون بكل الوسائل، ويحاربون التيئيس، والإحباط، بكل قواهم، متمسكين بالحياة عن طريق إعادة بناء ما هدم، وترميمه، تصر عديلة على أنهم ميتون، مجيبة عمتها، التي تسأل باستمرار عن وجهتها اليومية. فهي تعتقد أن الفلسطينيين الذين يعتبرون الموت سكينة أشد قوة من بني إسرائيل الذين يخافونها، ويتشبثون أكثر بالحياة المغشوشة، القائمة على جثث، وجماجم الشهداء، الذين تروي دماؤهم الزكية هذه الأرض المباركة، وتنبت أجيالا جديدة، ستحمل لا محالة مشعل المقاومة التي لن تنطفئ جذوتها.
طلبت عديلة من طفل الحجارة مدها بسلاح، فأقنعها بأن جسدها، وغضبها المكتنز في كل أعماقها أشد فتكا، ورعبا من أي سلاح آخر.
“طفل الحجارة: لن تحتاجي حزاما. لن تحتاجي مواد متفجرة. اضغطي على أسنانك
بمركز بطنك. يداك قذيفتان. بطنك حجر. تصبحين ساخنة بالنار. سيؤلمك ذلك، ثم تقفزين.
عديلة: هل يمكنني تحمل ذلك؟
طفل الحجارة: لم أر شخصا قويا مثلك. كل شيء سيتناثر عندما ترتخين.
عديلة: أحس أن جسدي بكامله سينفجر.”
وفي الوقت الذي تستمر فيه الحياة بشكل اعتيادي، ترفض عديلة دعوة عمتها للبقاء معها في البيت، مفضلة الخروج، مستقلة الحافلة، شاعرة بالغضب الذي يتعاظم بداخلها، وكأنه حزام ناسف، قابل للانفجار في أية لحظة. يتفصد كل جسدها عرقا، ورعشة، ويبدو أنها لم يعد بمقدورها السيطرة والتحكم في قوتها التي هي على وشك التشظي، والتطاير. تنزل من الحافلة، وتمشي مرة أخرى في الشارع، لتقف بأم عينيها على حياة هؤلاء التي تبدو سعيدة، ولا شيء يعكر صفوها…إلى أن رأت نوعا من الازدحام، حول محطة الحافلة، فقررت أن يحتضن هذا المكان ملحمتها.
تسمع صوت أبيها فاروق الذي يرجوها، ويتوسل إليها ألا تفعل ذلك، من أجل ذكرى أمها، وجدتها…ويحاول أحد الشبان الحديث إليها، وملاطفتها، إلا أن الوقت كان قد فات، حيث اخترقت حشود الركاب النازلين، والمتوقفين، والمستعدين للإقلاع، مكبرة مرتين، معلنة أن عمليتها الاستشهادية تمت بإرادة الله، لتتناثر أجساد المستوطنين، وتعلو الصراخات، وصفارات سيارات الاسعاف…
لقد فرقع التفجير الشارع كله، بما في ذلك حشد الناس، والسيارات، والمارة، ووصل دويه إلى الجهة الأخرى التي سمعه سكانها، وواكبته تغطية إعلامية مكثفة، وصفارات الانذار، والمروحيات، ودموع الأسر…وتأكدوا أن عديلة لم توزع رسائلهم، وأماناتهم، أو ربما انفجرت معها، وضاعت إلى الأبد.
شكلت عديلة بالنسبة إلى فاروق كل أمله في الحياة، فهي بنته الوحيدة التي طالما راهن عليها لتحمل اسمه من بعده، وتشكل استمرارية لعائلته، خاصة بعد أن أعطاها المفاتيح التي تعد رمزا توارثه أب عن جد. فقد كان يعول عليها في نقل الأمانة إلى أبائها، أي أحفاده، ليطمئن على الأرض التي لن تنسى، والذاكرة الجماعية التي طالما سعى المحتل إلى محوها، والعبث بمفرداتها.
وقد اجتمع في رثاء فاروق لابنته نوع من الشعور بالانكسار، والصدمة القوية، المثخنة بفقدان أعز ما يملك. لذلك خاطبها بقسوة، وعنف، بعد أن خيبت أفق انتظاره، وهدمت كل ما بناه. فهو لم يكن يؤمن بحسم الصراع بالطريقة التي اختارتها عديلة، بل كان يؤكد دائما على الحل السياسي للقضية، ما دام جوهر الصراع هو سياسي صرف. غير أن عديلة، وفي غفلة منه، اختارت سبيلا آخر، يتمثل في تبني المواجهة المسلحة، والتصور الجهادي المؤسس على المرجعية الدينية القرآنية التي تدعو صراحة في العديد من الآيات إلى مواجهة العدو المغتصب بالقوة.
صارت عديلة ملعونة في نظره بعد موتها، وعلم متأخرا بعد توصله بالظرف الذي يحمل مالا خاصا بالشهداء، أنها لم تكن تتماهى مع قناعاته، وأنه كان لها توجه فكري وإيديولوجي مختلف عن توجهه وخياراته. بل إنه تبرأ منها، جراء الغضب العارم الذي اجتاحه. والحال، أن عديلة لم تفعل شيئا سوى تصريف قناعاتها الشخصية التي راكمتها تحت نير الاحتلال، منتقمة للأمهات الثكالى، وللأيتام، والمشردين، والمنفيين، وللمعذبين فوق الأرض، وعلى رأسهم، فاروق الذي مرغ الجنود وجهه في الوحل، وداسوا على كبريائه، وكرامته.
“عديلة: لم أكن أومن بذلك. كنت أومن بالصمت، وبالافتتان. لكني هنا مضرجة بالدماء، والغبار والحصى. أعضائي أشلاء، وجمجمتي مفتوحة. سمعت لعنة أبي من المكان البعيد، حيث أنا. لن أنعم بالسكينة. سأبقى هكذا بلا نفع مضرجة بالدماء. ليس هناك صفح سوى الغثيان والحريق. من سيسامحني عن الأرواح التي سلبتها؟ لا أحد. وحتى أنا نفسي. أريد فقط تركي لأموت بسلام، لكني قتلت. لعنني أبي، وأنا محكومة بالتيه.”
من الطبيعي أن تصريف عديلة لموقفها بهذا العنف، وهذه الدموية، لم يأت من فراغ، بل هو تراكم لمجموعة من المواقف، والظروف التي عاشتها، تحت ظلم، وطغيان سلطات الاحتلال، التي لم ترحم يوما، ضعف وهوان السكان الأبرياء العزل. كما أن هذا النوع من الانتقام البشع، يعبر عن توجه جديد بدأ يتغلغل في صفوف الشباب الذين اقتنعوا بعدم جدوى النضال السلمي. فقد كرس الإسرائيليون جراء سياساتهم الرعناء، زرع اليأس في صفوف جيل جديد من الفلسطينيين، الذين صاروا مؤمنين أكثر من أي وقت مضى، بأن تحقيق العدل والإنصاف، لن يأتي من أروقة الأمم المتحدة، وقراراتها التي تظل حبرا على ورق، بل بالرد على المحتل بالقوة، والتضحية بالذات، إن اقتضى الأمر ذلك، فلا يفل الحديد إلا الحديد.
6.العروس الممزقة، أو تراجيديا الجسد الفلسطيني المتشظي
اعتزل فاروق بيته، وجيرانه، من هول الصدمة التي ألمت به، وصار مرابطا في المقبرة، يحدث نفسه، ويهذي، ناسيا، أو متناسيا فاطمة، ونظرية اللتين أتتا لإطعامه، وحثه على العودة إلى بيته، وإلا سيهلك جراء الجوع، والبرد، غير أنه أبى، آمرا إياهما بالانصراف، وهو لا يدري أهما حيتين، أم ميتتين!
يظهر طفل الحجارة من جديد مكلما عديلة التي أقسم أنها ستكون له حتما، فترد عليه بأنها تحولت إلى أشلاء ممزقة في السماء، إلا أنه مصر على أن يصلح جسدها مرة أخرى، باحثا عن مختلف أطرافه، من ساق، وذراع، محاولا صناعة كل شيء من الحجارة التي انبعث منها، مخاطبا إياها، وكأنها لا زالت في حلتها الطبيعية الأولى. وهذا ضرب من الأسطورة، التي نقبل من داخل نسقها، أن يعود الميت إلى الحياة، وأن يتم ترميم الجسد الميت الممزق الأطراف، ما دام أن التفكير الأسطوري، لا يخضع بالضرورة لمنطق العقل، وإرغاماته الصارمة.
عاد طفل الحجارة بعديلة يحملها على ظهره، مارا من كل الأمكنة، متزحلقا على الأرض، منبهة إياه إلى أنها نسيت مفاتيح أبيها الذي طالما أوصاها بالاحتفاظ بها. ورغم بحثه المضني عنها، إلا أنه لم يجدها. قفزت فوق كتفيه، فركض بها سريعا، مخترقا الأمكنة كلها، حتى وصلا السياج الفاصل بين الجهتين، فأمرها بالاستعداد لاختراقه، وهو ما فعله كثور هائج، حيث نجحا في بلوغ الضفة المقابلة.
تعرض عديلة الزواج على طفل الحجارة، رغم كونه غريب الأطوار، ورغم كون جسدها ممزقا، واسمها ملعون من والدها، ومن هي نفسها، فيقبل بذلك وإلى الأبد، فتختار له اسم “كيياس” أي حجارة، وهو ما يشكل مفخرة له، لتقدمه لأبيها الذي سيحمل اسمها، بعد أن تموت من جديد.
وعليه، فإن كيياس الذي ولد بين الخرائب، سيستأنف الحياة التي عاشتها العائلة من قبل، وسيواصل المعركة، ويقاوم باسم الماضي، وهو ما سيجعله أكثر قوة وبأسا، علما من أن المعركة سياسية كما آمن فاروق بذلك، وسيواصل الصود، والنضال، باسم جميع الفلسطينيين حتى تحقيق النصر.
على هذا الأساس، سيكون الرهان الحقيقي لكل الفلسطينيين على “كيياس” الفتى الأسطوري الذي يرمز للقوة والصمود، ولم شمل كل المنتمين لهذه الأرض الطيبة، كيفما كانت أطيافهم، وألوانهم السياسية، والمذهبية. وما دام أنه سيستجمع ذاكرة الماضي، فإن هذا يعني أنه لن ينسى أبدا كل الويلات، والمعاناة الأليمة التي ذاق مرارتها أبناء شعبه، وسيكون مزودا بالحجج، والدلائل الدامغة على اضطهادهم، لكي يتسنى له الترافع، والدفاع عنهم، بكل الوسائل المشروعة، على الأرض، ومن داخل المنتديات، والمنظمات الدولية المخولة بذلك، ضامنا عودة كل اللاجئين، والمغتربين، والمنفيين إلى ديارهم.
7.خلاصة
يتضح لنا جليا من خلال هذا السفر الدرامي المأساوي، مع أحداث وشخصيات مسرحية “تيياس” للكاتب الفرنسي لوران غوده، أنه استطاع بالفعل تفكيك وخلخلة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بنوع من الموضوعية، والتجرد الذي يصب في اتجاه انصاف الطرف الأضعف، أي الفلسطينيين المظلومين الذين سلبت منهم أرضهم، ودفعوا إلى التشرد، واللجوء في أوطان أخرى، لم يجدوا فيها الحضن الدافئ الذي يتدثرون فيه من قسوة الحياة وجبروتها. كما أن المؤلف استطاع أيضا، عبر أسطرة “كيياس”، أو طفل الحجارة، زرع الأمل من جديد في صفوف الفلسطينيين العزل، الذين تسرب اليأس إلى قلوبهم، وعقولهم، وكانوا أحوج ما يكونون إلى جبهة جديدة ترمي حجرا في البركة الآسنة لهذه القضية التي طال أمدها، وذهبت ضحيتها أجيال بكاملها.
على هذا النحو، فإن المؤلف من موقع مرجعياته الحقوقية الأممية، وإيمانه العميق بعدالة القضية الفلسطينية، انبرى للترافع، وفضح، وتعرية الممارسات البشعة، وغير الإنسانية التي اعتاد عليها جنود الاحتلال، من قمع، وترحيل، وهدم، وتجويع، وتشريد، وذبح…مؤكدا على لسان فاروق على الحل السياسي لهذه المعضلة، وعلى ضرورة الالتحام والوحدة، والصمود، للتمكن في نهاية المطاف من بلوغ حل نهائي وعادل لهذا الصراع الذي عمر طويلا، بإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، وعودة كل اللاجئين، والمغتربين، والمنفيين.
ثانيا.التراجيديا المعاصرة في مسرحية “وقاد”
إدانة موت القيم، ورهانات صنع الجمال
1.توطئة
كان موقف الأمم المتحدة الساهرة على استتباب الأمن في حرب الإبادة على البوسنة والهرسك سلبيا للغاية لشهور عديدة، كما أن الأنظمة العربية والإسلامية اكتفت في البدء، بدور المتفرج، قبل أن تنتقل إلى إصدار بيانات الشجب والإدانة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. ولولا صحوة بعض الضمائر الحية، وخشية أوروبا على صورتها التي اهتزت أمام الرأي العام الدولي، ومغالاة الصرب، وتحديهم الصارخ لكل القرارات والتوصيات، لأقبر كل مسلمي البوسنة والهرسك.
وقف العالم في تسعينيات القرن الماضي، شاهدا على ذبح أمة مسالمة، وإبادة شعب أعزل تحت يافطة حرب أهلية غير متكافئة، تخفي حربا دينية تطهيرية صليبية. وكان موقف الأمم المتحدة الساهرة على استتباب الأمن سلبيا للغاية لشهور عديدة. ولولا صحوة بعض الضمائر الحية، وخشية أوروبا على صورتها التي اهتزت أمام الرأي العام الدولي، ومغالاة الصرب، وتحديهم الصارخ لكل القرارات والتوصيات، لأقبر كل مسلمي البوسنة والهرسك. كما أن بعض وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، كانت لها اليد الطولى في فضح هذه الجريمة، وإظهار الوجه الحقيقي للشيوعيين السابقين، بعدما تم تفكيك المعسكر الشرقي، وتقسيمه إلى دويلات صغيرة.
ولم تتوقف رحى هذه الجريمة الإنسانية إلا بتدخل دولي لحفظ ماء وجه الغرب. وبعدما وضعت الحرب أوزارها، تم اكتشاف الوجه البشع للقوميين الصرب، المتمثل في المقابر الجماعية، والتعذيب الهمجي، والاغتصاب المذل والممنهج للنساء المسلمات. كما خرجت إلى الوجود مجموعة من الشهادات الصادمة عن ويلات هذه الفاجعة التي تعد بحق، وصمة عار في جبين الإنسانية جمعاء.
وبعيدا عن تفسيرات الصراع التاريخي والحضاري بين المسلمين والمسيحيين، وهجنة التركيبة السكانية ليوغزلافيا سابقا، ونهاية التاريخ، بانتصار الرأسمالية على الشيوعية… والمراحل الانتقالية للأنظمة السياسية، وما يواكبها من صراعات وتحولات كبيرة… فإن هناك وجها آخر لهذه الحرب، يتمثل في الجانب الإنساني، وما تعانيه الشعوب المستضعفة، والأفراد المغلوبين على أمرهم.
في هذا الإطار، تناسلت مجموعة كبيرة من الشهادات الفردية والجماعية عن هذه الحرب التطهيرية الصليبية، التي ألهمت ثلة من المبدعين الذين ألفوا كتبا وروايات، ومسرحياتٍ وأفلاما، لحفظ الذاكرة الجماعية لهذه الانتكاسة الإنسانية. في هذا الصدد، تدخل مسرحية “وقاد” لأميلي نوثومب التي استلهمتها من الواقع الإنساني المرير لحصار سرايفو الذي دفع الناس إلى إحراق كتبهم رغم قيمتها العلمية، ووضعها الاعتباري الرمزي من أجل التدفئة، ومقاومة ضراوة البرد القارس. نحن إذن، أمام تراجيديا معاصرة أبطالها برابرة يعيشون ليحرقوا الأرض والزرع، في مقابل أبرياء عزل يحرقون أعز ما لديهم لضمان العيش.
2.محكي النص
تدور أحداث مسرحية “وقاد” في فضاء مغلق، بالعاصمة سراييفو، التي تعرضت لحصار جائر برا وجوا، من طرف غلاة القوميين الصرب لمدة طويلة، لدفع المقاومين إلى الاستسلام، والخضوع التام لإملاءات وشروط الظلمة المغتصبين. وقد عانت الساكنة الأمرين جراء هذا الحصار، حيث شح الطعام والأدوية، وانتشرت الأمراض والأوبئة… وكلما حل فصل الشتاء الذي تبلغ فيه درجة الحرارة أدنى مستوياتها، إلا وشعر السكان بدنو أجلهم، في غياب وسائل التدفئة.
يتمثل محكي النص في ثلاث شخصيات، هي الأستاذ الجامعي، ومساعده دانييل، والطالبة الباحثة مارينا، الذين وجدوا أنفسهم محاصرين وسط شقة الأستاذ بدون تدفئة. وبعد محاولاتهم اليائسة لإيجاد أي أسلوب يقيهم صقيع البرد، اضطروا للتضحية بالكتب، الواحد تلو الآخر، حيث حولوها إلى وقود وخشب تلتهمه ألسنة اللهب، لزرع بعض الدفء في البيت. وقد صاحب هذا الاختيار الصعب والمؤلم، نقاش عميق بين الأطراف الثلاثة، حول تراتبية الكتب التي يمكن التضحية بها، وبعض العناوين التي يمكن إرجاؤها إلى حين.
كما أن جبروت البرد القرين للموت، كشف عن هشاشة الإنسان وضعفه، حيث تحول الأستاذ بعزة قدره وجلاله إلى مجرد حيوان مقاوم بغريزته للموت، وباحث عن المتعة “المحرمة”، والبقاء بأي ثمن، وبأي وجه كان. أما الطالبة الباحثة الجميلة والرقيقة، فقد تناست أنوثتها وكبرياءها، وانساقت باحثة عن لحظة دفء أنى وجدتها، حتى لو تعلق الأمر بمضاجعة أي جسد، والالتصاق به للحظات! علاوة على أن الأستاذ المساعد أبان بوضوح، عن الوجه الحقيقي للإنسان الضعيف المستعد للتضحية بكل المبادئ، والقيم والأفكار الكبرى التي آمن بها من أجل البقاء.
ورغم كل أنواع الصراع والممانعة التي أبداها الأستاذ المالك للبيت والمكتبة، والتي تشكل الكتب أبناء له، وامتدادا روحيا وعلميا، إلا أنه خضع في النهاية لناموس الحياة، وغريزة البقاء، مضحيا بكل العناوين تباعا، إلى أن فرغت المكتبة تماما، ولم يبق أمامه هو الآخر، وأمام دانييل سوى مغادرة البيت، كما فعلت مارينا قبلهما، طلبا لنوع من الانتحار المقنع، حيث سيشكلان هدفا محتملا للقناصين الصرب المنتشرين في كل مكان، خلف النوافذ المغلقة، والبيوت الموصدة، وأسطح العمارات…
من هذا المنطلق، انبرت المؤلفة، عبر هذه الحكاية الإنسانية البسيطة، والعميقة في الآن نفسه، إلى وضع حداثة الغرب وعقلانيته موضع تشكيك ومساءلة، مسفهة كل مبادئه الكبرى، ونظمه المعرفية والقيمية، مفككة طبيعة الإنسان الهشة والمعقدة، مخلخلة مختلف الأبعاد الطبيعية، والثقافية الموروثة، والمكتسبة لدى الإنسان. هذا الكائن المنفلت والمركب الذي يظهر أكثر مما يخفي، ويتظاهر بالشيء ويؤمن بنقيضه، حيث أبرزت تصرفات ومواقف الشخصيات نوعا من المفارقات الكبيرة والصارخة التي تعكس بجلاء تركيبتها غير المنسجمة، وغير المتناغمة.
ولعل النهاية المفتوحة لمسرحية “وقاد” هي اختيار ذكي من المؤلفة لإشراك المتلقين المفترضين في بلورة تفاصيلها، واقتراح نهايات مختلفة ومتباينة، لكن أغلبها يسير في اتجاه مأساوي، ما دام أن كل الفصول والأحداث التي تعج بها، تصب في اتجاه تكريس البعد التراجيدي للنص، وجعله يشي بمآلات مفجعة للشخصيات، تتماشى مع ويلات الحرب والحصار الغاشم الذي ضرب على سراييفو التي صارت تشتم في ساحاتها وشوراعها، وأزقتها رائحة الموت والخوف والرعب، وانتشار الجثث المتفحمة، على إيقاع البرد القارس، والتساقطات الثلجية الكثيفة التي حولت حياة الناس إلى جحيم، في غياب أبسط وسائل التدفئة.
3.المأساة والرؤية المأساوية في مسرحية “وقاد النار”
بعد أفول شمس التراجيديا الإغريقية، بأساطيرها، وصراعها الوجودي/ العمودي بين الأرض والسماء، تم إنزالها إلى أرض الواقع في الدراما الحديثة لمعانقة هموم الإنسان العادية واليومية، ومعالجة الأبعاد المأساوية للإنسان البسيط في مختلف تمظهراتها، والاشتغال على مجموعة من المواضيع المغرقة في بحور المآسي، من قبيل الحروب، والهجرة، والغربة، والتيه، والعبث…
وما دام أننا لم نعد نتحدث اليوم، عن نقاء أي جنس أدبي أو فني، بل على هجنة الأجناس الأدبية والفنية، أو تناسجها الأجناسي، فإن اللافت للانتباه أن مسرحية “وقاد” تعد هي الأخرى، نوعا من الهجنة بين المأساة والدراما الرومانسية، والكوميديا. هذا المزيج من الأنواع موجود منذ القرن التاسع عشر بفضل فيكتور هوغو، وألفريد دي موسيه…إلا أنه صار اليوم، معتمدا في جل الأعمال المسرحية الجادة والملتزمة التي تعالج قضايا إنسانية كبرى تقض مضجع البشرية. ويبلغ “العمل الدرامي أسمى غاياته عندما تلتحم الكوميديا بالتراجيديا في روائع المسرح العالمي، حتى ليكاد المرء لا يتبين أين هي الكوميديا وأين هي التراجيديا، عندئذ يتم التلاحم بين النمطين، في العمل الواحد، فيصل بذلك إلى سبر أغوار النفس البشرية، بما جبلت عليه هذه النفس، من تناقضات ومفارقات، هي تناقضات الحياة ومفارقاتها.”
وعليه، فإن مقولة موت التراجيديا صارت اليوم متجاوزة، بفضل إعادة إحيائها من جديد، بعد مزجها مع الكوميديا، وتحولها إلى مأساة سوداء، والسعي لجعل أبطالها المنتمين لمختلف الشرائح الاجتماعية يختارون، ويحددون قدرهم، بدلا من أن يكونوا مجرد ضحايا للقدر. وفي أفق بلوغ هذا الهدف، سعى نيتشه في كتابه “ولادة المأساة” إلى التأكيد على ضرورة تقويض أسباب موتها، والإيمان “بالحياة الديونيزوسية، لأن زمن الإنسان السقراطي قد ولى”، وحل محله زمن الإنسان التراجيدي، الذي يسعى إلى إرادة القوة، والذي نجد مواصفاته ظاهرة عند زرادشت.
تفتتح أميلي نوثومب نصها المسرحي بتوصيف دقيق لفضاء الغرفة التي تدور فيها الأحداث، والتي لم تعد تتوفر سوى على كراس خشبية وموقد معدني، ومكتبة ضخمة، بعدما تم استخدام الطاولات والمكتب، والأرائك وقودا للتدفئة في غياب الخشب، أو أية وسيلة أخرى، جراء الحصار والحرب التي طال أمدها، وبلوغ درجة الحرارة أدنى مستوياتها.
بعد أن أضرم الأستاذ النار في مكتبه الخشبي والطاولات، لم يبق شيء في شقته يصلح وقودا للتدفئة. وبشكل ساخر، تمنى لو يقصف البرابرة الحي الذي يسكنه حتى تتوفر فيه أدوات للتدفئة، كما هو الحال في الجامعة التي تتوفر فيها أرضيات خشبية صالحة للتدفئة مع توالي القصف الذي لا يتوقف علـيها، وهو ما يجعل الجو العام من داخلها أكثر اعتدالا من الخارج. وقد اعتبر دانيال رأي الأستاذ وتحليله نوعا من “الدعابة الفاترة”.
الأستاذ: أنا غير متفق معك. إنك تعارك. الاستمرار في إعطاء الدروس بالنسبة إلينا، نحن الأساتذة، يعتبر معركة. والاستمرار في اهتمام طلبتنا بمحل المفعول به في الجملة عند الرومانسيين، رغم الحرب، يعتبر كذلك معركة.
دانيال: إني لأتساءل حقا إن كان ذلك مهما، بالنسبة إليهم. أشك في أنهم لا يأتون إلى الدراسة إلا لأن الجامعة ما تزال فقط دافئة.
الأستاذ: هي دافئة بالفعل، لكنها تتعرض للقصف. وهذا ما قد يكلفهم حياتهم. لا تنتقص من قدْرهم.”
الواقع أن الحرب ظرف استثنائي في حياة البشر، ولا يمكن التعبير عن مآسيها، واستشعار أهوالها وفظاعاتها، إلا من لدن من اكتووا بلظاها، وذاقوا مرارة كأسها. وما دام أنها تضع حياة الناس على كف عفريت، وتصادر منهم الشعور بالأمن والأمان، فإنها تشكل بالضرورة لحظة وجدانية، ينصت فيها الإنسان لدواخله، ويتفاعل مع أعماقه، وينتج خطابا يعبر عن حقيقته بشكل عار، بعيدا عن كل أنماط الاستعارات والتنميقات المموهة.
غير أن دانيال لم يكن متأكدا تماما بأن مرتادي الجامعة من طلاب وأساتذة متشبثون بالحياة، بل إن بحثهم عن لحظة دفء، متكئين على أنابيب مكتبة الكلية الدافئة هي الحياة عينها. فهو نفسه عندما يستيقظ فجرا، متجها إلى الكلية، يرسم أمامه هدفا واحدا ووحيدا، هو الهروب من زمهرير البرد، وبلوغ أنابيب الكلية الساخنة التي يستدفئ بها، فتنقله من الموت إلى الحياة، غير آبه بالمخاطر التي تكتنف طريقه، ولا مركز، لا على أطروحته التي يشتغل عيها، ولا على القنابل العنقودية التي تملأ سماء سراييفو، والتي قد تضع حدا لحياته في أية لحظة. بل إن دفء أنابيب الكلية أنسى دانيال حتى التفكير في حبيبته مارينا المتيم بحبها، حيث صار هو هدفه ومبتغاه.
“الأستاذ: ولا حتى في مارينا؟
دانيال: ولا حتى في مارينا، يا أستاذ. أفكر في الأنابيب وحرارتها التي ستخترق معطفي.
الأستاذ: الآن، بدأت أفهم لماذا تقضى أكثر أوقاتك في مكتبة الكلية.
دانيال: أكنت تتخيل أني حقا، أقوم بذلك شغفا بالأطروحة؟
الأستاذ: لا يمكن للمرء أن يتنبأ معك أنت بشيء. تبدو شخصا مثاليا للغاية.
دانيال: أنا فعلا مثالي. لهذا، لا أتحمل الحصار. إنه يحولنا إلى حيوانات!
الأستاذ: إذا استطاعت هذه الحرب أن تعلمك بأنّا حيوانات، فذلك أمر جيد.”
على هذا الأساس، فإن شخصية دانيال التي كانت على الدوام مثالية، من حيث الالتزام العلمي والانضباط البحثي، والارتباط العاطفي، كفرت بكل القيم والمثل العليا التي طالما آمنت بها، بفعل الحصار الذي لم تعد تطيق انعكاساته وويلاته. فمخلفاته وآثاره السلبية، حولت دانيال إلى شخصية شيزوفرينية، مفارقة، منفلتة، يصعب الإمساك بتفاصيلها. كما أن ظروف الحرب والحصار الصعبة قزمته إلى حيوان باحث عن الدفء البيولوجي، أنى وجد، على حساب أغلى ما لديه. وهذا يعني، أن الطبيعة الفطرية في هذه الحالة، تنبلج بشكل جلي، متجاوزة الثقافة المكتسبة. فغريزة البقاء عند دانيال، تطفو وتسمو على كل شيء، بما في ذلك العلم الذي نذر حياته من أجله، والحب الذي جعله يرتبط روحيا ووجدانيا بمارينا، ويحلم بقضاء بقية عمره بين أحضانها.
وبينما كان الأستاذ ودانيال، يجري الواحد منهما خلف الآخر مثل طفلين صغيرين، دخلت عليهما مارينا بشكل فجائي، متسائلة عما يجري. أخبرها الأستاذ بالموضوع، المتمثل في سعي دانيال إرغامه على ارتداء معطفه، ومنعه من حقه في أن يصير أبلهَ. وأمام إصرار الأستاذ، طلبت مارينا إمدادها بالمعطف الذي وضعته على كتفيها، مشيرة إلى أن الموقد قد انطفأ، فيجيبها الأستاذ بأنه يعلم ذلك، وأنه لم يتبق لديه ما يحرقه، لتنبهه مارينا إلى أن الكتب المصفوفة بعناية في رفوف مكتبته تشتعل جيدا، ويمكنها أن تصير وقودا، يقيهم جميعا وجع البرد وقسوته.
“دانيال: إنها ليست وقودا للنار، يا مارينا.
مارينا(بابتسامة بلهاء): بلى، يا دانيال. إنها تشتعل جيدا.
الأستاذ: إذا شرعنا في إحراق الكتب، سنكون قد خسرنا الحرب، حقا.
مارينا: نحن خسرناها.”
بالفعل، فاستنادا إلى مؤشر دخول فصل الشتاء للسنة الثانية على التوالي، فإن سكان سراييفو بدؤوا يستشعرون نوعا ما الهزيمةَ، في ظل شح أو انعدام جل المواد الغذائية، والدواء والوقود الذي يعتبر مسألة حيوية جدا في هذه المناطق التي تبلغ فيها درجة الحرارة أدنى مستوياتها. وعلى الرغم من أن الجامع المشترك بين الشخصيات الثلاث هو حب العلم، والتعلق به، فإن وفاءهم للكتب التي طالما نهلوا من معينها سيوضع على المحك. فهل سيقبلون اقتراح مارينا القاضي بإحراقها، من أجل التدفئة؟ ألن يكون إحراقهم للكتب إعلانا رسميا عن هزيمتهم المدوية؟ ألن يتحولوا في هذه الحالة إلى برابرة وأوباش، يعيدون تكرار إحراق مكتبة الأسكندرية، أو مكتبة القسطنطينية، أو مكتبة بغداد…أو مكتبة مدينة فيجكنيكا البوسنية التي كانت فيها مكتبةً ضخمة ظلت تحترق لمدة ثلاثة أيام كاملة، تحت وابل القنابل الفوسفورية الصربية الغاشمة، في شهر أغسطس من سنة 1992.
أظهر دانيال بمعية الأستاذ، نوعا من الممانعة في بداية الأمر، مفسرين الأمر بالضعف الجسدي والتعب الكبير الذي انتاب جسد مارينا النحيل، وعدم قدرتها على احتمال شدة البرد وضراوته، غير أنها دخلت في نوع من المحاججة معهما، مدعية أن اهتمامهما بالكتب لم يكن أبدا مرده إلى حبهما وتعلقهما بها، بقدر ما يعود بالأساس، إلى نوع من التعاطي البرغماتي معها، حيث شكلت بالنسبة إليهما وسيلة لإنجاز أطروحتيهما، وحصولهما على الترقية، ليس إلا. وهي التهمة الغليظة التي لم يرتضيـاها لنفسيهما، حيث ستسفه وتدمر كل ما قاما ببنائه طوال عمرهما، ويتحولان إلى مجرد شخصيـن انتهازيين، يسعيان خلف تحقيق مصلحتهما، بل إنهما اعتبرا كلام مارينا نوعا من السب والقذف. وهو ما فجر غضب الأستاذ الذي رد عليها بعنف، معتبرا أن إحراق الكتب، يوازي إحراقها هي بنفسها، فهي لا تعدو أن تكون تبنا يحترق ليتلذذ به دانيال !
دخلت الشخصيات الثلاث في صراع وفضح، ومكاشفة، حيث أقرت مارينا بأن دانيال يسقط طالبات السنة النهائية في شركه، ويستمتع بأجسادهن لسنة كاملة، ثم يتخلى عنهن، ضامنا عدم رؤيتهن في السنة الموالية. وهو ما حصل معها هي الأخرى، غير أنها ضمنت سنة إضافية معه! وهو ما جعله يستشيط غضبا ويصفها بالبشعة، وبأحط النعوت.
وفي غمرة هذا الصراع، استطاعت مارينا بدهاء كبير أن تحصل من الأستاذ على ستة أجزاء من أحد الكتب التي أرغمهم في السنة الأولى على قراءتها، وإمضاء وقت طويل وجهد جهيد في فهم محتوياتها. وها هو اليوم يضعها بين يديها لتحترق، وتتحول إلى دخان ورماد. ولعل في استمتاع مارينا بإحراق الكتب التي بذلت مجهودا كبيرا لاستيعابها، وإهدارها لأجمل وأبهى أيام الربيع والسلم والسلام من أجل مطاردة معانيها ودلالاتها، إرضاء لأستاذها، نوعا من التعويض المعنوي والشرعية، وكأنها دفعت ثمن ذلك مسبقا، مقتطعةً لياليَ وأياما طويلة من شبابها، كان من الأولى أن تتمتع به مع أترابها.
وفي إطار مرافعة تودوروف عن الأدب، وعن الأدوار الحيوية التي يمكن أن يقوم بها في كل الظروف، يقول: “يستطيع الأدب فعل الكثير، يستطيع أن يمد إلينا اليد حين نكون في أعماق الاكتئاب، ويقودنا نحو الكائنات البشرية من حولنا، ويجعلنا أكثر فهمًا للعالم من حولنا، ويعيننا على أن نحيا. لكن لكي يقوم الأدب بهذه الوظيفة الإنسانية، يجب أخذه بالمعنى الواسع والقوي الذي هيمن في أوروبا حتى نهاية القرن التاسع عشر، وصار مهمشًا اليوم، بينما ينتصر تصور مختزل على نحو غير معقول…فالأدب، مثل الفلسفة والعلوم الإنسانية، فكر ومعرفة للعالم النفسي والاجتماعي الذي نسكنه، والواقع الذي يطمح الأدب إلى فهمه هو بكل بساطة التجربة الإنسانية.”
إن سخرية القدر أبت إلا أن تتحول الكتب التي طالما قدسها الأستاذ، وأحاطها بهالة من الاهتمام المتزايد إلى وقود للتدفئة، برضاه وتزكيته، واختياره بدافع الشفقة على مارينا المسكينة التي كادت تتجمد من الصقيع. بل إن ما قامت به، رغم وصفه بالطيش، اعتبره عرضا رائعا وممتعا، كما أنه استفاض في الثناء عليها، وامتداح أنوثتها ورقتها، وجمالها الذي يفوق جمال الفتاة التي كان دانيال مرتبطا بها في السنة الفارطة، والتي لقيت حتفها جراء إحدى الغارات. وهو ما شكل حسن التخلص بالنسبة لدانيال، وخفف من طقس الفراق الذي اعتاد عليه، عقب الانتهاء من إشباع غرائزه من صونيا!
يبدو من خلال محاورات الأستاذ معه، أن تشبثه بمارينا، إنما مرده فقط إلى جمالها الأخاذ الذي دفعه حتى هو نفسه للتضحية بالكتب، والسماح لها بإحراقها. كما أنه ظل حنونا وعطوفا معها رغم سعيه الظهور بشخصية وقحة. فالجمال مسوغ أساسي لمجموعة من السلوكات البشرية. وقد كانت للظروف الموضوعية التي فرضتها الحرب اليد الطولى في جعل الشخصيات شفافة أكثر، حيث نزعت عنها أقنعتها نسبيا، وصارت تتحدث بشكل أكثر موضوعية، رغم قسوة وفظاعة ما يصدر عنها.
الأستاذ: بالمناسبة، كان السؤال الذي طرحته حبيبتك الغالية مهماً للغاية. صيغته المعتادة هي: ما الكتاب الذي ستحمله معك، في حال الذهاب إلى جزيرة خالية؟…وهو يطرح بشكل معكوس: ما الكتب التي لن تكترث أبدا لتدميرها؟ فلولا الحرب، لما خطرت ببالي هذه الفرضية أبدا. ولولا ستيربينيش أيضا، لما تساءلت عن أي كاتب سأختار التضحية به، في المقام الأول.”
سعى الأستاذ إلى التكيف والتأقلم مع إكراهات الحرب، وبدا أكثر واقعية من الآخرين، حيث تخلص من أستاذية العلم، وصار شيئا فشيئا، أستاذا في حرق الكتب وتدميرها، وغربلة العناوين المرشحة للحرق قبل غيرها، بداعي القطيعة، متهما دانييل بالعاطفي الميؤوس منه. وما هي إلا لحظات حتى طرقت الباب مارينا التي عادت، حاضنة الكتب التي أخذتها معها لحرقها، بعدما دمر الحي الجامعي الذي كانت تقطنـه، وصار أثرا بعد عين.
رق قلب الأستاذ لحالها، واقترح عليها، الانضمام للسكن معه، ومع دانييل في إطار التجمع العائلي ! وباعتبارها ضحية حرب. وستنام في السرير نفسه المخصص لفرد واحد مع حبيبها، ما دام ذلك سيوفر لها بعض الدفء، وليس فقط رغبة في معشوقها. وهو التوصيف الذي لم تقبله من الأستاذ، معتبرة أن تفسيره لكلامها فيه نوع من إشعال الفتنة، بينها وبين دانييل. وللقبول بالسلم، فرض أن يتكفل بنفسه بإضرام النار في مؤلفات ستيربنيش التي سبق له أن أعطاها إياها، وأن يكون له شرف ذلك.
يبدو أن الشخصيات استأنست بحرق كتب الخزانة والتدثر بدفئها، رغم أهميتها ورمزيتها، حد الإجهاز على نصفها. وفي لحظة مفارقة، دخل الأستاذ فوجد مارينا منهمكة في قراءة أحد أكثر الكتب تعقيدا وغموضا، وهو “درع النبي” لسورلوف. وهو ما دفعه لامتداح شغفها بالعلم والقراءة، حتى في هذه الأوقات الأكثر مرارة من حياة المدينة. غير أنها صدمته بأن قراءته لهذا العمل المستعصي على الفهم، لا تتجاوز تأملها في المستويات التركيبية لجمله التي لا تساوي لحظة دفء يصنعها لهيب صفحاته بعد اشتعال النيران فيها.
مارينا: لقد كتب أكبر حقيقة في العالم، تتلخّص في جملة واحدة هي: “الجحيم هو البرد”.
وهي تناص مع مقولة الفيلسوف، والأديب الفرنسي الشهير جان بول سارتر الذي ما انفك يؤكد أن: “الآخر هو الجحيم”. وأمام رفض مارينا للتحرك والرقص لوحدها، أرغمها الأستاذ على مراقصته على مضد، حتى تستشعر بعضا من الدفء، بدلا من الجلوس مرة أخرى بطريقتها المعتادة، واضعة ركبتيها بين ذراعيها. وبعد تنصلها منه، إثر انتهائهما من الرقص، عادت لوضعية الجلوس الأولى، ليمطرها بوابل من الأسئلة الاستنكارية المتعلقة بعدم اشتهائه، ولا رغبته في جسدها النحيل. ورغم أن لا أحد تحدث عن الرغبة، إلا أن الأستاذ أصر على الاستطراد في الحديث عن الموضوع، مؤكدا أن وجود رجل وامرأة في مكان مغلق، يؤدي بالضرورة إلى بروز الرغبة. غير أن مارينا لا تعبأ بكلامه، بل تصر على إضرام النار في أحد الكتب، لأنها لم تعد تتحمل معاناة البرد القارس، الذي تحول إلى جحيم حقيقي. حاول الأستاذ منعها بكل الطرق، بما في ذلك، إمساكها بقوة وعنف، وجعلها تنتحب، فتجد دموعها التي تنهمر على خديها دافئة، فتسأله عن سر هذا الدفء، رغم أن كل أعضائها متجمدة، فيجد في سؤالها إبحارا في الميتافيزيقا التي دفعت الرب إلى جعل الدموع ساخنة؟ كما أن هذه السخونة ذكرتهما بالحمام الدافئ الذي اعتادا على أخذه كل صباح، والذي يعطي للإنسان نوعا من الحيوية والنشاط، وهو أمر صار نسيا منسيا منذ بداية العدوان، والحرب اللعينة التي صادرت منهما إنسانيتهما.
وفي غمرة هذا النقاش، فاجأ الأستاذ مارينا بمعانقتها من الخلف، وتقبيلها من عنقها، فتتخلص منه بغضب، بداعي أنها لا تبادله حبا بحب، وأنها مغرمة بدانيال. غير أنه أصر على رغبته الشديدة فيها، رغم نحول جسدها، وعدم اكتراثها برغبته، ليدخلا في نقاش معنى الحب، قبل أن يضعها أمام الأمر الواقع، ما داما، وحيدين في البيت، وأن الغلبة للأقوى، وليس لها مكان آخر يأويها. بعد هنيهة، سيتحول موقفها بشكل جذري، حيث ستقبل بالعرض، ما دام أنه السبيل الوحيد للتدفئة، ضاربة عرض الحائط بحبها لدانيال، ومتناسية كل دفاعها المستميت عن طهرانية العلاقات العاطفية. وهو ما دفعه لوصفها بالوقحة، إلا أن ما سيفعله بها، لا علاقة له بالغرام، في نظرها، مادام أنها لن تسلمه سوى جسدها، أما روحها، فهي في منأى عن ذلك. فالمهم، هو أنها ستشعر بالدفء، كما أنها هي من سيستغل جسد الأستاذ الحارق، وليس العكس. اندفعت مارينا نحوه، إلا أنه بدأ يتراجع إلى الخلف، وكأنه لم يعد يرغب فيها.
بات الأستاذ يمارس نوعا من السادية حيال الكتب التي أحبها بصدق، وحببها لطلابه، واشتغل عليها نقديا، بكتابة مجموعة من النصوص والمقالات، فصارت اليوم، بقدرة قادر، معدة للإحراق واللهب، لمنحه دقائق معدودة من الدفء المنفلت، والشعور بلذة الإحراق. ولعل الانقلاب الكبير الذي بدا على الأستاذ الذي كان شعلة من العلم، وقبلة للطلاب المتعطشين إلى المعرفة الرصينة، كما هو الحال بالنسبة إلى دانيال الذي اعتبر نفسه محظوظا للدراسة على يديه، ونظر إليه على الدوام، باعتباره حصيلة للذكاء الإنساني…مرده بالأساس، إلى هول الحرب وقسوة البرد، وعدم قدرته على المزيد من المقاومة. فهو في نهاية المطاف، آدمي ضعيف، لا يستطيع أن يتجاوز حدودا معينة من الصمود.
الأستاذ: ثمّ طز، في كل شيء! إنها الحرب.
دانيال: يكفي!صارت الحرب تعلّتك الفارغة!مهما يقال، تجيب: إنها الحرب. ننحو عليك باللائمة، لإحراقك أمهات الكتب، فتجيب: إنها الحرب. نلومك على كيل المديح للروايات الرخيصة، لروايات الجيب التي يقتنيها المسافرون لتزجية الوقت، فتجيب: إنها الحرب.ندينك لكونك أغويت خطيبة مساعدك، فتجيب: إنها الحرب.
الأستاذ: إنها الحرب، حقا!
دانيال: وفي ماذا سيغفر لك هذا؟
الأستاذ: ليكن في علمك أن الضوابط والأعراف لا تمكث على حالها، إبان الحرب.
دانيال: هكذا، إذن. أتريد أن تقنعني بأنك كنت طفلا بريئا، في وقت السلم؟”
لم يتوان الأستاذ في الدفاع عن نفسه، مدعيا بأنه قبل الحرب كان يراود فتيات أكثر جمالا من مارينا التي تشبه “الطائر المنتوف”، وما عليه سوى أن يرحل من البيت بمعية غانيته الرخيصة إذا لم يرق له ما يحصل. وهو ما استفز دانيال الذي سبه، وأمسكه من خناقه، وعنفه، وهم بضربه، لولا تدخل مارينا التي طلبت منه التوقف عن العنف، لأنها رأت للتو، منظرا بشعا اغتيل فيه ثلاثة أفراد، وهذا يكفي.
يبدو أن دانيال صار يعاني من طهرانية مأزومة على حد تعبير الأستاذ الذي فقد هو الآخر إحساسه بالقيم والمثل العليا، وصارت رواية “حفل راقص بالمرصد” التي طالما ازدراها أيام السلم، مرجعه الذي يهتدي بهديه. غير أن المفاجأة تكمن في أن مارينا هي الأخرى انتزعت الكتاب منهما واحتضنته، مدعية أنه أجمل ما يمكن أن يقرأه المرء، وأنها ترفض رفضا مطلقا أن يحرق! وأن أبهى ما فيه، هو الحفل الراقص المنطوي على لغة الغواية، والصراع بين الملك والوحش، دون أن يعني ذلك أنها تحن إلى لحظة مراقصتها للأستاذ وسقوطها في شركه. فقد اعتبرت أن الأمر كان بشعا ومقرفا، وهي الآن في أمس الحاجة إلى لحظة جمال، تجدها بالتأكيد، بين صفحات هذه الرواية.
على هذا الأساس، يمكن القول إن مارينا صارت أكثر موضوعية وواقعية في التعاطي مع الوقائع والأحداث، وفي أفعالها وسلوكاتها، حتى وإن كانت تصطدم مع التقاليد والأعراف، والعقل الثقافي الجمعي الذي ما انفك يفرض سلطته على كل الناس، إيمانا ويقينا منها بأنهم خسروا الحرب. والحال، أن ظروف الحرب والحصار، وما ترتب عنها من تحولات كبرى، فرضت بالضرورة، منطقا حياتيا جديدا، يقطع مع الموروث الثقافي والديني، ويؤسس لرؤية جديدة، قد لا تتفق الشخصيات مع تفاصيلها، لكنها مرغمة على التأقلم معها، مهما بلغ مستوى مقاومتها وصمودها.
يأخذ الأستاذ الكتب العشرة المتبقية، ويشرع في إلقائها في الموقد بالتتابع، محدثا شعلة أدبية رائعة، إلى أن يتبقى بين يديه كتاب واحد فقط. يتعلق الأمر بحفل راقص بالمرصد، حيث توسلت مارينا للأستاذ بألا يحرقه، ما دام أنه هو الشيء الجميل المتبقي الذي يمكنه أن ينسيهم ويلات الحرب. غير أن الأستاذ كان صارما، عندما اتهمها بالتحول إلى امرأة مثالية للغاية، كلما تعلق الأمر بهذا الكتاب، في حين، تتحول إلى حيوان عندما تلتصق بجسده، وهو ما جعله يكرهه أكثر فأكثر.
مارينا: هيا، دعك من هذا! لا يجب أن تغار من مجرد كتاب!
الأستاذ: طيب، قولي بأنك حيوان.
مارينا: أنا حيوان.
الأستاذ: قولي بأنك لم تعودي تنتسبين لجنس البشر بالكل.
مارينا: لم تعد تربطني بالبشر أية رابطة!
الأستاذ (وهو يضع الكتاب في فوهة الموقد):في هذه الحالة، هل الأمر عندك سيان
أن أهلك هذا الكتاب، الآن؟
مارينا: لا، من فضلك. الأمر ليس عندي سيان!(تنهض لإيقاف حركته).”
رغم إصرار ما رينا على تحولها إلى حيوان، إلا أنها احتفظت بجانب إنساني متمثل في حرصها الشديد، وإصرارها على عدم حرق الكتاب الأخير؛ غير أن الأستاذ كان له رأي آخر بإلقائه في اللهب، وإطفاء آخر جذوة تربطها بالإنسانية. وهو ما جعلها تعبر عن كرهها له، وعدم رغبتها في رؤيته ثانية، وتخرج منزعجة من البيت، رأسا نحو الساحة الكبرى، طلبا للفسحة، أو بالأحرى الانتحار، ما دام أن هذا الفضاء خطير، ومليء بالقناصين الذين يرمون بالأعيرة النارية كل من يمر به. وقد سبق لها أن أخبرته أنها ستذهب إلى هناك، حال انتهاء المؤونة من الكتب. يلحق بها بعد ذلك دانيال مهرولا، ليشاركها المصير ذاته.
بلغ اليأس بالشخصيات مداه، ولم تعد قادرة على الصمود أكثر، فشرعت في الاستسلام لقدرها، حيث وجدت في الانتحار المقنع سبيلا للتخلص من وجع الدنيا التي لم تعد تطاق. وقد أضحت مقتنعة تماما بأن لا أمل لها في مواصلة مشوار الحياة التي تحولت إلى قطعة من العذاب المؤلم والمتواصل. ومن المؤكد أن بلوغها الحد الأقصى من مستويات الانكسار واليأس، سيدفعها لاختيار مصيرها المظلم، كما هو الحال في كبرى التراجيديات اليونانية الخالدة التي تعرف عادة نهايات مأساوية.
لم يحد الأستاذ هو الآخر عن الاختيار المأساوي لدانيال ومارينا، حيث قرر وضع نفسه رهن إشارة بنادق القناصين الهمجيين، المنتشرين في مختلف نوافذ وأسطح العمارات المطلة على ساحة المدينة، حيث سيتحول إلى جثة هامدة، تنضاف إلى جثث كل الأبرياء العزل الذين لقوا مصيرهم المأساوي، بهذا المكان الذي تشتم منه رائحة الموت. على هذا النحو، فإن كل الشخصيات الإشكالية أجمعت على اختيار المصير التراجيدي نفسه الذي صار هو الحل الوحيد أمامها لتجاوز اليأس وقسوة البرد، والحرب والحصار.
4.خلاصة
من خلال اشتغالنا على مسرحية “وقاد” لأميلي نوثومب، يتضح لنا جليا، أنها تدخل في خانة الأعمال التراجيدية المعاصرة، المسربلة بنفس كوميدي في بعض الأحيان-تراجيكوميديا، أو ملهاة سوداء- حيث وضعت بشكل تخييلي موفق إلى أبعد الحدود حداثة الإنسان المعاصر، ونظمه السياسية والاجتماعية والثقافية، والديمقراطية والحقوقية، موضع تشكيك ومساءلة. كما أنها حفرت عميقا في النفس البشرية اليائسة والمهزومة التي عرت طبيعتها الهشة التي تجعلها تنتقل من الثقافي المكتسب إلى الطبيعي الموروث في إطار العود السلس للإنسان إلى طبيعته الحيوانية التي تتجاوز كل القيم والمبادئ الكبرى، وتقفز على الدين والعرف والقانون.
كما أن هذا النص المسرحي أيضا، هو مساءلة لعلاقة المثقفين بالأدب الذي صار في خطر على حد تعبير تودوروف. فالتحولات الهيكلية الكبرى التي يعرفها العالم، وانتشار بؤر التوتر في كل أنحاء المعمور، تقتل قيم الجمال في الحياة. وما دام أن الأدب بمختلف أجناسه لم يعد يستجيب للآفاق الانتظارية للقراء المفترضين الذين أداروا له ظهورهم، وأحرقوا مكتباتهم، بحثا عن لحظات دفء زائلة، بفعل ويلات الحروب والدمار، فإن ذلك التصرف الهمجي يعد إيذانا بأفول شمس كل ما هو جميل، وفتح الأبواب على مصراعيها، لتفشي كل ألوان التطرف والارهاب والظلامية.
بناء على ما سبق، فإن هذا العمل هو صيحة إنسانية لنفخ الروح من جديد في ما تبقى من إنسانية الإنسان، ورد الاعتبار لفعل القراءة، والأعمال الأدبية الجميلة الخالدة، وصنع الجمال، ونشره على أوسع نطاق، ما دام أنه هو الترياق القادر، ضمن أشياء أخرى جميلة، على انتشال الإنسانية من المستنقع الدرامي البئيس الذي وجدت نفسها فيه مكرهة.
خاتمة
استنادا إلى النصين معا، وما يعالجانه من قضايا، وأحداث مأساوية مختلفة باختلاف المواضيع، والمرجعيات الفكرية والأيديولوجية والجمالية لأصحابها، فإن الجامع المشترك بينهما هو تبئير تراجيديا معاصرة متمثلة في ذبح وإبادة شعبين أعزلين هما الشعب الفلسطيني والشعب البوسني عن طريق التقتيل الممنهج باستخدام أعتى الأسلحة المحرمة دوليا، وكل الأساليب الأكثر دموية وهمجية ورعونة…غير أن الإيمان العميق للشعبين بعدالة قضيتهما، وبأن الحقوق تنتزع ولا تعطى، دفعهما للصمود والمقاومة بشتى أنماطها، فاضحين سرديات العقلانية الغربية، وشعارات الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان…
وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى فتح أفق جديد لحلول سلمية من شأنها حفظ ماء وجه المنتظم الدولي، وإنقاد ما تبقى من قيم ومبادئ كبرى ناضلت من أجلها الإنسانية لقرون عديدة، وتكريس مقاربة جديدة لمعالجة الصراعات والخلافات التي قد تنشب بين الدول، والتي ينبغي أن تنصت إلى صوت العقل، وتنتصر للإنسية في أبهى مظاهرها.
ببليوغرافيا
رولان غوده: “الحصاة”، ترجمة سعيد بوكرامي، سلسلة المسرح العالمي، منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 399، مارس 2019.
أميلي نوثومب: “وقاد النار”، ترجمة محمد ماشتي، سلسلة المسرح العالمي، العدد 405، منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دولة الكويت، 2020.
عبد الواحد بن ياسر: المأساة والرؤية المأساوية في المسرح العربي الحديث، منشورات ضفاف، ط1، 2013.
فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، 2002.
كارل غوستاف يونغ: علم النفس التحليلي، دار الحوار للنشر والتوزيع، 1997.
كلود لفي سترواوس: الأسطورة والمعنى، ترجمة شاكر عبد الحميد، معهد الشارقة للتراث.
فؤاد زكريّا، التفكير العلمي، دار مصر للطّباعة، القاهرة، 1993.
مولين ميرشنت، كليفورد ليتش: التراجيديا والكوميديا، ترجمة علي أحمد محمود، مراجعة شوقي السكري وعلي الراعي، عالم المعرفة، العدد: 18، يوليوز 1979، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
تزفتان تودروف: الأدب في خطر، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال.