في ظل أجواء سياسية فاسدة لا يكاد ينكرها حتى صانعوها. ومع حالة المد والجزر المترددة بين إيهام بدخول مصاف الدول الديمقراطية ونكوص في اتجاه دولة المخزن التقليدية. يطفو على السطح سؤال الجدوى من العمل السياسي المنظم في هكذا مناخ مليء بالتيئيس والإحباط والمناورة.
إن المتأمل لسيرورة وصيرورة الممارسة السياسية ببلادنا وأدوار الدولة فيها. يقف حائرا أمام الكم الهائل من التناقضات الغريبة التي تشكل نوعا من الفصام الحاد بين الخطاب والنصوص المؤطرة للفعل السياسي وفي مقدمتها الدستور. وبين الواقع الذي يبدو بعيدا كل البعد عنها في أغلب الأحيان.
ولئن كان الفكر السياسي عبر التاريخ يركز أساسا على القضايا الجوهرية في النظام السياسي. من قبيل: شكل الدولة وسبب قيامها وكيفية تنظيم شؤونها، ومصدر السلطة وسبل ممارستها…؛ فإن واقعنا يؤكد نوعا من التسطيح لهذا الفكر وتحويره إلى قضايا فرعية ترتبط غالبا بالمصالح الفردية والفئوية. واختزاله في مجرد صناديق اقتراع ومناصب ومغانم يتم التحكم في خريطتها بأشكال ومستويات تختلف حسب السياقات. ويمكن القول أن أخطر إفساد تعرض له الفكر السياسي ضمن هذا النهج هو ترسيخ علاقة السياسة بالريع في إطار معادلات بنيوية تفرغ الآليات الديمقراطية من معناها وأدوارها.
ولعل المتتبع لتقلبات المشهد السياسي خلال العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل، يدرك تماما حجم الجهود و”الإبداع” في تطويع الفاعلين وعموم المواطنين، تارة بمنطق العصا والجزرة وتارة بمنطق الانحناء للعاصفة وأحيانا بصناعة كائنات حزبية/ انتخابية، حيث تعمل الدولة على فتح أقواس ـ توهم بنفس ديمقراطي حقيقي ـ سرعان ما يتم إغلاقها بعد امتصاص للتوتر الشعبي الذي يكون قد وصل مداه، ليكتشف المواطن بعد ذلك أن الوضع عاد لما كان عليه إن لم يتراجع للوراء.
ومن بين الأساليب المعتمدة بشكل ممنهج خلال هذه الفترة، إذكاء الخلافات الإيديولوجية والعمل على إثارة قضايا وملفات جانبية. قصد تحويل النقاش المجتمعي عن المربع الحقيقي للتدافع السياسي ألا وهو مربع الديموقراطية والعمل المؤسساتي. وسحب البساط أمام أي محاولة لتشكل جبهة أو تحالف متعدد المرجعيات يشتغل على القضايا الديمقراطية الجوهرية.
يضاف إلى ذلك أساليب تسطيح الوعي المجتمعي المعروفة، التي تشتغل بطرق مغرضة على مجالات “الفن والرياضة”. وتيسير مناخات الإلهاء والتخدير والإدمان. مما يجعل الشباب ـ المعول عليهم في أي تغيير ـ خارج القضايا الحقيقية للمجتمع. ويمنحهم متنفسات لتفريغ الحنق الاجتماعي والنفسي المتراكم لديهم جراء الأوضاع المعيشية المزرية.
هذا التخلف الذي آل إليه المشهد السياسي والاجتماعي ببلادنا، من هشاشة للمؤسسات المنتخبة وابتعادها عن هموم المواطن اليومية، وتردي الخطاب والتمثيلية، وانخفاض منسوب الثقة في العملية السياسية…، هو تخلف مشهود يرقبه الجميع ويعبر عنه كل بطريقته؛ لكن الأكيد أن المجتمع برمته يؤدي ضريبته باستمرار من خلال التأخر في ولوج مسارات التنمية والتقدم بمختلف أبعادها، والأكيد كذلك أن “نخب” الريع تستفيد من هكذا أوضاع وتجتهد في عرقلة كل محاولة لتغييرها.
إن القوى السياسية الحقيقية ببلادنا مدعوة لإعادة قراءة وتحليل المشهد. وترتيب الأولويات في تعاطيها مع الشأن السياسي والمجتمعي. ذلك أن المرحلة تقتضي أكثر من أي وقت مضى الترفع عن الخلافات وإبداع آليات للتنسيق والتعاون وتقريب الفجوات. وتوحيد النضالات في سبيل تحقيق حد أدنى من الشروط والمقومات الديمقراطية. التي يمكن أن تعطي معنى لأي عمل حزبي أو سياسي بشكل عام. وعندما نتحدث هنا عن المقومات الديمقراطية فلا ينبغي اختزالها في العملية الانتخابية على أهميتها. وإنما نقصد الأسس القاعدية لممارسة الفعل الديمقراطي بكل تجلياته. من حرية للتعبير والإعلام وحرية لتشكيل التنظيمات وفصل للسلطات واستقلالية للقضاء. واستقلالية للمؤسسات المنتخبة وإشراك للمجتمع المدني …؛ كما نعتقد أن النضال من أجل ديمقراطية برلمانية حقيقية يعتبر من المداخل الأساسية لتحقيق هذه المقومات.
وفي نفس الوقت، ينبغي أن تعي هذه القوى الحية أن الصراع في قضايا ذات طبيعة إيديولوجية أو جزئية لن يفيد المجتمع في شيء. في ظل تخلف ديمقراطي وتنموي وفي ظل فساد للنظم والمؤسسات. بل إن التوغل في تلك الصراعات يساهم في استدامة الوضع وخدمة أجندة النخب المتحكمة في المشهد. فالديمقراطية تعتبر أساسا لا محيد عنه لأي مجتمع متحضر يحتضن المرجعيات الفكرية المتعددة ويدبرها بآليات راشدة ومعقلنة. تجعل من الاختلاف رحمة ومصدرا للنماء والارتقاء الحضاري والتنموي.
وختاما، إن المشهد السياسي الوطني في حاجة لبناء وتعزيز الوعي الفردي بالقيم الديمقراطية وتملكها فكرا وسلوكا، وعي يرتقي بالفاعلية الاجتماعية إلى درجة التضحية من أجل الإصلاح بترجيح المصالح العامة على المصالح الخاصة أو الفئوية الضيقة.
*فاعل سياسي