
ساهمت الرشيدية، عبر مجال تافيلالت وسجلماسة، في جعل الشمال المغربي عقدة قوافل كبرى ربطت المغرب ببلاد السودان لقرون طويلة. عبر تموين القوافل وتنظيم التجارة وسكّ الذهب الوافد من الجنوب في مركز سجلماسة القريب من الريصاني على وادي زيز.
وبفضل الواحات والقصور والأسواق، تحولت المنطقة إلى بوابة صحراوية ثابتة لعبور الذهب والملح والمنسوجات والبشر بين ضفتي الصحراء. بما رسّخ إرثاً تجارياً وثقافياً عميق الأثر حتى العصر الحديث.
سجلماسة: عقدة القوافل
نشأت سجلماسة سنة 757م في واحة تافيلالت وازدهرت حتى القرن الرابع عشر كمنتهى شمالي رئيسي للمسالك الغربية العابرة للصحراء. ما جعلها من أهم مراكز التجارة في مغرب العصور الوسطى.
وامتدت أطلالها على ضفاف وادي زيز قرب الريصاني، حيث انطلقت وتوقفت القوافل بين المغرب وبلاد السودان، مستفيدة من موقع يوفر الماء والتموين ضمن نظام الواحات.
وتشير المصادر إلى أن الذهب القادم من السودان كان يُسك في سجلماسة. ما يعكس دورها التنظيمي والمالي في حركة الذهب عبر الصحراء.
السلع والمسارات
كانت القوافل العابرة لتافيلالت تتبادل الذهب والملح والنحاس والمنسوجات وسلعاً أخرى. وكان خط سجلماسة يربط من الشمال إلى نهر النيجر جنوباً، في شبكة راسخة عبر الصحراء.
وتتحدث المصادر التاريخية عن القوافل المحملة بالذهب والملح والعبيد والعاج والتمور والحبوب وأدوات الحديد والعطور التي كانت سجلماسة معبرا لها، ما يوضح تنوع السلع ومركزية سجلماسة في توزيعها.
كما وثّقت الرحلات الكلاسيكية مثل رحلة عبور ابن بطوطة سجلماسة نحو مالي، بما يعزز صورة المدينة كمعبر منتظم نحو تمبكتو وبلاد السودان.
الواحات والبنية المحلية
أمّنت واحات زيز في تافيلالت الماء والغذاء والمأوى، وهي شروط حاسمة لبقاء تجارة القوافل واستمراريتها عبر مجال شديد القحولة. وأدّت القصور والقصبات وتقنيات الري التقليدية دوراً تكاملياً في تنظيم التموين والجباية على طول المسالك، مما قوّى مناعة الشبكة التجارية المحلية.
هذا التوازن البيئي-الاقتصادي في الواحات سمح بتكثيف الحركة التجارية دون استنزاف حرج للموارد، رغم هشاشة المناخ الصحراوي.
الأسواق والحواضر
تظهر الريصاني، الواقعة بجوار أطلال سجلماسة، بوصفها امتداداً لسوق الواحات التاريخي حيث ظل النشاط التجاري نابضاً حتى اليوم بطابع صحراوي أصيل. وتذكر روايات حديثة عن السوق تنوع السلع المحلية وحضور شبكات تبادل تجمع الواحات والرحّل. بما يشكل استمرارية لتقاليد العبور التجاري في محيط الرشيدية.
كما نقلت مصادر تاريخية عن تخطيط سجلماسة القديم بوابات تشير لاتجاهات التجارة، ما يعكس وعي المدينة الجغرافي بالمسارات الكبرى.
الأثر السياسي والجبائي
انبثقت الدولة العلوية من تافيلالت، مما منح المجال المحلي ثقلاً سياسياً انعكس على تنظيم طرق الصحراء والجباية والوساطة التجارية بين الشمال والجنوب. وتوسعت السلطة العلوية في مراحل لاحقة إلى بسط النفوذ على نقاط استراتيجية مرتبطة بالتجارة الصحراوية مثل تغازة. ضمن محاولات لإعادة تنشيط المسالك بعد اضطرابها.
هذا التشابك بين الأصل السياسي العلوي ومجال تافيلالت التجاري يوضح كيف تداخلت الشرعية الدينية والاقتصاد القافلي في صناعة النفوذ.
أعلام وشهادات
أشاد ابن بطوطة بجمال سجلماسة وجودة تمورها في طريقه إلى مالي سنة 1352–1353. مما يعكس ازدهارها الزراعي ودورها كمحطة قافلية فاعلة. ورصد ليون الإفريقي لاحقاً آثار عمرانها وأسوارها بعد تخريبها. مع إشارة إلى انتقال السكان للقصور المحيطة واستمرار الحياة الاقتصادية في المجال الأوسع.
هذه الشهادات الميدانية توثّق مكانة سجلماسة-تافيلالت في المخيال التجاري والجغرافي للمغرب الصحراوي.
التحول والانحسار
تراجع مركز سجلماسة بعد القرن الرابع عشر وانتهت مدينياً في 1393 تقريباً. قبل أن تُعاد جزئياً في عهد مولاي إسماعيل ثم تتعرض لتخريب جديد سنة 1818، مما قلّص من دورها القاري.
كما أدى التفكك السياسي وتغير طرق التجارة وتزايد الضغط الخارجي إلى انحسار محور سجلماسة، وانتقال الثقل إلى عمران الواحات والقصور المحيطة. ومع ذلك، احتفظت تافيلالت بوظيفتها كحاضنة للتمور والجلود والأسواق، ما أبقى خيوط التجارة الإقليمية حية.
الإرث في الزمن الحديث
تقع الرشيدية اليوم على مقربة من هذا الإرث. وتعمل كبوابة حديثة نحو أرفود والريصاني ومرزوكة. حيث يتم توظيف سردية القوافل في مسارات السياحة الصحراوية والمنتجات المحلية. وتُصنّف أطلال سجلماسة موقعاً مهدداً لدى جهات حفظ التراث. وتستمر الجهود العلمية-الأثرية في توثيق تاريخها وحمايته ضمن ذاكرة التجارة العابرة للصحراء.
وهكذا يستمر تأثير الرشيدية-تافيلالت في كتابة تاريخ الصحراء التجاري، من مدينة القوافل إلى مركز جهوي يستثمر الإرث في اقتصاد الواحات والسياحة الثقافية.




